الحارس في حقل الشوفان وليث متي

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
12/10/2007 06:00 AM
GMT



قرأت مؤخرا رواية (الحارس في حقل الشوفان)، ضمن ما أقرأه يومياً من اصدارات مؤسسة المدى القادمة. ويمكنني القول أنني أعدت قراءة هذه الرواية، فقراءتي الأولى لها كانت قبل لا أدري من السنوات، ربما قبل ثلاثين عاما.

اكتشفت أنني لم أكن أتذكر من هذه الرواية أية لمحة. أتذكر فقط أنني كنت قد قرأتها حقا، وأن صديقي رياض قاسم كان يردد، بصوته المرتفع، وبطريقة مجنونة،  ولسنوات، عنوانها، وينغّم فيه. كان يخاف الصمت، فكان يملأ ما يفرغ منه ومني ومن الزمن، محركا الهواء الذي يحيطنا، والضجر الذي يقرض منا . كان العنوان وحده كافيا لتذكيرنا بلامعقولية شيء في حياتنا لا نعرف ماهو. لعله لاشيء، لعله من هذا النوع الذي يعني كل شيء من دون تحديد، لعله مزحة.
 
من يدري ما يحدث في رؤوسنا، أي ترابط آني أو مستذكر، أية سخافة؟ أشياء من هذا النوع تصنع في داخل المرء تورما من التخيلات والتعارضات اللغوية والصوتية، وهذا بالطبع لن يكون بعيدا عن حياته وعاداته وحظوظه وما يسمح به مكانه الاجتماعي أو لا يسمح. تخيل  نفسك حارسا في مستشفى المجانين، أو خفيرا على ملكية مقوّضة، أو حارسا على حقول فارغة لا شوفان فيها ولا حمص ولا هي تزرع شيئا على الاطلاق. سيكون هذا واحدا من المعاني والامكانات. هذا ما عندي على أية حال.
 

 من لي بصاحب آمال يعينني على الأمل، وعلى تلمس امكانية أخرى غير أن نكون حراسا على الشوفان أو الفراغ. إنني امتلك خزينا من اليأس يكفي لخمسين عاما قادمة،  فما توحي به حركة السياسة في بلدنا، ونوعية الأهداف الغريبة المعدة للأجيال القادمة، لا تشجع على تقديم اقتراحات بطولية غير الانتحار.

أعترف أن قراءتي الثانية أزعجتني، بالأحرى جعلتني حزينا جدا، لم أحبها، شعرت معها بأنني بتّ مبلبل الفكر مثل (هولدن) بطل الرواية، لا أعرف كيف أنسج كلامي ولا متى أتوقف، ما دمت لا أتكلم الا مع نفسي.  رحت أفكر بحياتي، وبحياة أشخاص من جيلي، وأتحدث مع نفسي ببلاغة الرجل الذي يمشي مع الحيطان : مجد. كل هذه الحراسات، كل هذه الوقفات التي تسبب السل، كل هذه المعالجات الأرضية لنبتة لا تنبت، زراعات فضاء، زراعة صوف بانتظار ظهور القرنين وتفتحهما، حياة كبش محرقة،  خروف العيد السعيد، خروف الفاتحة الحزينة، قرد مصاب بالشيزوفرينيا، فراغ مع شمس لا ترحم، تسويات مع الشيطان والسلطة، أصدقاء السوء والوهم، شاعرية الحماقات القديمة، روح الجد الهازل، مشكلات جديدة مع رب عملك، توقع تغيير في حياتك، نصائح مقدمة من اخصائي: تفاءل بالخير. ( ماذا قلت؟ تفاؤل أم تفاعل أم تفائيل، ماذا يحدث لي يا الهي؟)
 

وماذا بعد؟  تخيلوا الآن حارسا في حقل الشوفان أو ربما الشيطان أو الديكتاتورية أو مملكة الطوائف التي آل اليه بلدنا. أنا أتخيل وأضحك لكن من تداع فاجأني: فيلم الحارس!  

الخلاصة أنني بعد قراءتي لرواية الشوفان قررت أن أضرب عن الكلام وأمشي مع الحيطان. كنت ساخطا، أشتم كل شيء، وأركّب جملا من خزين منسي.

 في البيت اعتادوا على صمتي، والآن لن يعرفوا أنه نوع من الاضراب. أصدقائي ومعارفي لا يعرفون بتطورات حياتي، يعرفون أنني ساه وأنني لا أتذكر. المهم أن لا أكون جاهزا الى أي انسان. كن بعيدا تكن سعيدا. الصمت.

 لكن عراقيا واحدا يستطيع أن يجعلك تتحدث حتى الصباح ولاسيما إذا ما جاء مبشرا أو نذيرا. ستحدثه ومخطط في عقلك ينمو ويتكامل ويشير اليك بين الفواصل وطلب الشاي والأسئلة المحلية التي لا يمكن أن تترجم الى أية لغة أخرى، أن عليك تمزيق ثيابك لتجلس على أحد الأرصفة وتبكي على حياتك وتصرخ مناديا: أيها المغرورون... أين الطريق؟
 

إلا أن الحل الصحيح في كل الأحوال هوالابتعاد، بالاحرى الفرار، وصون وحدتك الداخلية وراحة بالك بعيدا عن الجماعة الاخبارية الحماسية التي تكاد تتباهى حتى وهي تنقل خبرا عن موت أمك.   

لكن ما من مفر، فالجماعة الاخبارية تمتلك عبقرية خاصة بالشمشمة وتنظيم اللقاءات والسؤال عن المختفين بوساطة الظاهرين والمطوفين. واحد منهم ألقى القبض عليّ في عز يأسي وثرثرتي الداخلية الناتجة عن تداعيات الحراسات والقتل على الهوية في شوارع العراق الباسل. وكنت ماشيا الهوينى مع الحيطان التي كانت نهاياتها تعبر بي الشوارع من دون وعي مني.
 
قادني مستخدما خجلي الى المقهى. هناك بدأت المناورات من أجل الإجهاز على صحتي النفسية، ومعروف أن كل مفاجأة تتطلب طريقة، وكل كلام يستدعي توطئة. دق عينيه في عينيّ وأخذ أنفاسا متلاحقة من الدخان. تلك كانت طريقته الافتتاحية. قلت في نفسي: الآن.. الآن سيخبرني أن أمي الميتة من الحرب الثانية ماتت! الآن سيعزيني!
 

قال بفصاحة وبصوت حزين ورخيم: يؤسفني أن أخبرك أن ليث متي مات ( وبعد صمت ذي جرس وايقاع داخلي أضاف): أعرف تماما كم كان ليث عزيزا عليك!

كنت قد ضربت الطاولة بأصابعي الأربعة قبل أن يضيف الجملة الثانية. لقد هزني الخبر حقا، وفكرت أن حياة ليث متي القصيرة على أرض العراق هي أشبه بفتح باب والخروج من الشباك المقابل. كان الأكثر تمثيلا في حراسة الحقول الجدباء. كان الحارس الشهم الذي يميل جسده من جهة الى جهة مع حركة قدميه في المشي كأنه راقص. كان الأسعد، والأخف، والأحزن، والأسرع. كان هو الحارس في حقل الشوفان.

 فيالها من مصادفة!

                                                  + + +

لا أخشى أن أحسب موت ليث متي ضمن الخسائر الفادحة التي تلحقها السياسة الحالية بنا.  فما كان سهلا أن يموت هذا المتمسك بالحياة الذي صارع ألف عاهة وعاهة جسدية واجتماعية لولا وجود عاهة العاهات في جسدنا الوطني. إن هذا الذي صارع الحظ السيء، وكيّف جسده الذي صنعته مصادفة ظالمة الى حياة الابداع والفرح، صرعه الخوف من شارع طائفي مليء بالأنذال والحاقدين والمستهترين.
 

في نهاية الشهر الثاني من عام  2006، وبينما كنت أواصل استعدادي للسفر، واجراء فحوصات طبية، اتصل بي هاتفيا وكان يبكي بكاءً مراً لموت أخيه. واسيته وطلبت منه أن يزورني في الصحيفة لكي نتحدث بهدوء فصاح بي: كيف؟ أنا لا أخرج من البيت هذه الأيام . أنا خائف. هل نسيت؟  ألا تعرف؟  

ما الذي نسيت؟ ما هذا الشيء الذي أعرفه وما عدت أعرفه؟  أنا لم أنس. لم أنس أن  ( ليث) مسيحي!

كان هذا قد أخافه. يا للعار!
 
كانت أمه مريضة، وأخاه الذي مات هو الوحيد الذي يستطيع التعامل مع متطلبات الحياة العملية، على الرغم من أنه عاطل، في حين أن أخيه الصغير، الطويل والمفتول العضل، كان يخجل من خياله، يخجل إذا ما حدّق به طفل، وما كان يفعل شيئا سوى الوفاء والصبر والابتسام . أما ليث فكان يعيل الجميع وهو من هو، (نص ونص) حسب تعبيره!
 
 من يعرف ليث متي يعرف هذه النص ونص. الوصف الذي سوف أقدمه عنه ههنا يفسر الأنصاف والأرباع، ولست أظن أنه كان ليزعجه في حياته، بل كان سيفرح به، ويستخدمه كشيء من ملكيته ويضيفه الى قواه. إنني قصير وأعرف هذا. مرة قلت: (نعم أنا قصير... وفخور ... هاهاهاها) أنا أقترح على أية حال، ولو كان حيا لصحح لي بأعظم الوصفات الخليعة والمجنونة في صناعة إنسان بسبعة أيام ، أو أقل، أقل بكثير.
 

إذن؟ أظن أن  ليث متي ولد من اتصال جنسي لم يكتمل، أو لعله ولد في الشهر الخامس فجاء ناقصا، ومن ثم عاش ناقصا بالمصادفة والاتكال على الله. لعل القابلة تتحمل مسؤولية ما، قد تكون سحبته من أصابعه العشرة فجاء بلا أصابع، ثم أدارته في رحم أمه لتتلافى خطئها، فإذا به ينزلق بالعرض ويسد على نفسه الطريق، وحين أدارته من جديد لتسحبه الى النور أعطى قدميه، فسحبته منهما بعنف، فإذا بهما يتعوجان.

كيف عاش؟ بالحظ، وبمعونة أم محبة ومكافحة، وبقدرته على قبول ما أعطاه له الله من دون اعتراض وبفرح.
 
 كان باستطاعته إخفاء نقصه بالجلوس خلف طاولة، فقد امتلك صدرا عريضا وكتفين ملفوفتين وكأنه كامل ومكمل، لكن لو تعمد إخفاء يديه المبتورتي الأصابع مع قدميه الغريبتين، فلا سبيل لإخفاء رأسه، وكان من سوء الحظ بحيث لا يستطيع إخفاء رأسه، وكيف يمكن للمرء أن يخفي رأسه إذا ما كان هو رأسه، وأكثر من هذا يشبه ثمرة طماطم حمراء ناضجة تتناثر فوقها شعرات صفراء ونمش بين الأحمر والأصفر؟ تعابير وجهه وحدها احتفظت بوسامة شقراء ونظافة معتنى بها، وفي ما بعد أطلق (سكسوكة) صفراء أضفت عليه الأهمية وشكل الفنانين.
 
  الخلاصة أن ليث متي، بما هو عليه، يبدو في الظاهر مفسّرا بقوة، مشروحا شرحا وافيا، مفضوحا من قمة رأسه حتى قدميه، محكوما بجسده وبفكرة الآخرين عنه. إن ما يعمله، وما يستطيع ولا يستطيع، عبقريته، سخافاته، ضحكاته، لحظاته العصبية، غرامياته البائسة، كل شيء ظاهر عليه أو مختف فيه، سيلتحق بمصيبته. من هنا طوّر الآخرون سلوكا متسامحا معه يقترب من الشفقة والإحسان، في حين طوّر هو نفسه لامبالات رجل قوي مشغول يستطيع إذا شاء أن يبزّ الموهوبين، وإذا شاء سيظهر مغرورا ورافضا ومتعاليا ومشاغبا. وكيف لا ما دام يعمل ليل نهار من دون أن ينحني لأحد.
 
صديق وصفه بالجبروت، وكان يقصد جبروت أصحاب العاهات قبل كل شيء. لكنه في الحقيقة موهوب، ومسحوق بالعمل، وبمسؤولياته العائلية التي أصبحت ثقيلة بمرور الوقت. إن صح الجبروت فهو ناتج من العيش وسط بخل المحيط وعدم تعاونه وعدائيته، وقبل كل شيء من الصراع من أجل البقاء، والحفاظ على ما هو بديهي في الحياة.
 

كان بامكان ليث أن يكون رساما مدهشا. لقد رسم رسوما بقدر ما مثلت حظوظه، مثلت طموحه في العيش بأماكن سحرية طفولية: مدن عجائبية تصعد الى الأعلى يتآخى فيها البشر والحيوانات. رسوم قوية حافظت على فظاظة الخيالات الحزينة ونوازعها في السحر، وكانت كلها منفذة بالحبر الأسود.

كان يمسك قلم (الروترنغ) بقبضة يده ويضغط، ثم يستخدم راحة يده في تشكيل التأثيرات التي يريدها. من أوائل رسومه التي تحولت الى غلاف كتاب: شجرة سوداء هائلة وشخص ضئيل يقف تحتها. كان ليث قد رسم نظيره، صغيرا، يميل الى اليسار بسبب عرج مخيف، لكن صدره العريض يوازنه، وكانت يداه مرفوعتين قليلا.. يدان بلا أصابع. كان ليث مميزا هناك، وحيدا، صغيرا، تحت شجرة، لا يتفيأ،من ذكر الفيء؟ إنه هناك تحتها ويبدو أنه فاجأ نفسه. هل نزل من الشجرة؟ المرجح أنه نزل من كوكب عطارد.  
 

ضرورات العيش وحدها جعلت ليث يستغرق في العمل كمصمم تجاري، وكان في كل المعايير مصمما ناجحا. ومن سوء الحظ أن التكنولوجيا الجديدة باستخدام البرمجيات  في مهنة التصميم جعلته يغلق مكتبه ومن ثم يغلق عليه البيت، ثم أنه أحكم اغلاق البيت بسبب الارهاب.   

كان يسميني بأبيه الروحي، وكنت أشتمه على هذه التسمية ليس احتجاجا بل لأسمع ضحكته وسبابه وجديته المخبولة وسخافاته التي يطرحها بصيغة أسئلة يلحّ عليّ في أن أجيب عليها فورا. كنا متفقين على أية حال على مثل هذه التسلية.

سألني مرة سؤالا لا معنى له وهو يتصبب عرقا من فرط التعب والانفعال فقد كان قد تسلق سلما في التو: هل يجوز لشخص لا يعرف الرسم أن يرسم؟
 

كنت أعرف قصده. لكن على اللعبة أن تتوسع باتجاه المرح. أجبته: هذا شخص يتدرب!

نظر اليّ غير مصدق . عاجلته بجواب آخر: كل شيء جائز. هناك رسم لا يعرف صاحبه أن يرسم، وهناك رسام لا يعرف الرسم ويرسم، وهناك رسام يعرف كيف يرسم لكنه لا يرسم.. مثلك!

ويفتح عينيه مذهولا من هذه الفصاحة، ويسألني أن أعيدها من جديد. لكنني أردها اليه : قل يا خبيث من هذا الذي رسم وهو لا يعرف الرسم؟  
 

كنت أعرف من يقصد. ويغرق ليث بضحكة الكلب (ماتلي) في كارتون قديم.

كان كلما ضحك هذه الضحكة أسمع صاحب المقالب الذي انقلبت عليه الأمور يهتف:

! Matly do something

بهذه المناسبة أقول لأصدقائي : إفعلوا شيئا.... لا تموتوا!